عندما درس بدران علي بدران، ابن السادسة والثلاثين عاما، من قرية عين السهلة موضوع الإعلام وإدارة الأعمال، لم يتوقع أنّ يخصص فيلم مشروع تعليمه النهائي لأولئك الأطفال البائسين الذين يطرقون نافذة سيارته في المفترق صباحا ومساء يوميا. لقد مر بدران أيضا مثل بقية سكان المنطقة، من جانبهم وكأنهم يشكلون جزءًا من المشهد العادي. كان اليوم الذي أدرك فيه بدران أنّ هؤلاء الأطفال البائسين سيشكلون عالمه في العقد القادم، أحد أصعب الأيام في ذلك العام.
“رأيت طفلا عمره 8 سنوات، واقفا في المفترق، مرتعشا، مبللا، فشعرت أنّ عليّ أن أتوقف. عندما خرجت من سيارتي وتبللت أيضا، شعرت مذنبا وعاجزا فجأة عند رأيته”. بعد أن نجح بدران في كسب ثقة الطفل، واسمه يحيى، أخذه معه إلى بيت أسرته في طولكرم في الضفة الغربية، وعندها كشف له ذلك الطفل حقيقة أنه كان يعيش واقعا تراجيديا. والآن، بعد مرور أكثر من عقد على ذلك اليوم الماطر، يتم في إسرائيل عرض فيلم “فراطه”، والذي يلعب فيه يحيى وأخوه الصغير همام دور البطولة.
ماذا تعرف عن هذه الظاهرة؟

يدور الحديث عن “أطفال فلسطينيين تتراوح أعمارهم بين 5 حتى 11 عاما، من الضفة الغربية، يتم تهريبهم، بناء على طلب أسرتهم، بسيارات تابعة لسكان عرب من إسرائيل إلى داخل إسرائيل، ويتسوّلون في المفترقات، بإشراف “المشغّلين” الأكبر منهم سنا”.
وفقا لكلام بدران، فهم يتركّزون في إسرائيل بشكل أساسيّ في منطقة الطيبة، وادي عارة، والناصرة. يبدأ يوم “عمل” الأطفال نحو الساعة السابعة حتى الثامنة صباحا، ويستمر حتى الساعة الحادية عشرة حتى الثانية عشرة ليلا. يقف الأطفال في المفترق أكثر من 15 ساعة يوميا، ويتنقلون بين سيارة وأخرى محاولين إقناع السائقين إعطائهم بعض القطع النقدية عبر النافذة، في العادة يكرّرون استجداءهم قائلين: “ساعدني”. وقد يكسبون أكثر من 100 دولار يوميا، ولكن يصل أكثر من ثلاثة أرباع أرباحهم إلى المُشغّل. وتأخذ أسرهم نسبة أصغر من أرباحهم، ويأخذ الأطفال غالبا مبلغا ضئيلا.
“يتناول الأطفال وجبة واحدة يوميا، غالبا، تكون وجبة تونا أو قطعة من الخبز، وينامون في الغابة، في مواقع البناء، في قنوات المجاري أو في المساجد. وهكذا يبقون داخل الأراضي الإسرائيلية لوحدهم، من دون إمكانية الاستحمّام أو التواجد في منزل، لمدة أسابيع أو أشهر أحيانا، حيث إنّ علمية التهريب من الضفة الغربية إلى الأراضي الإسرائيلية تكلّف أكثر من 150 دولارا في كل مرة”.
المخاطر المتربّصة للأطفال

يعمل الأطفال عملا خطيرا. يركضون في الشارع بين السيارات، وقد لا يلاحظهم السائقون بسب قامتهم القصيرة، لذلك يكون احتمال تعرّضهم للدهس تحت عجلات السيارات في المفترق مرتفعا. بالإضافة إلى ذلك، تكثر الصراعات العنيفة بين الأطفال من أجل “السيطرة” على المفترقات. يروي بدران أنّه كان شاهدا على حوادث عنف السائقين تجاه الأطفال، الذين غضبوا عند ملامسة الأطفال وأيديهم متسخة سياراتهم اللامعة، فضربوهم علما منهم أنّ أحدا لن يُدافع عنهم.
ولكن التسوّل ليس الجزء الأوحش في روتين حياة هؤلاء الأطفال. إنهم مضطرون على مواجهة مدمني المخدّرات ومجرمي الجنس الذين يستغلّون ضعفهم، الحر والبرد المتطرّفيْن، والحيوانات مثل الأفاعي والخنازير البرية. يتحدث بدران عن أحد الصراعات الاعتيادية بين الأطفال، والذي أدى إلى نتائج مرعبة بشكل خاصّ. عندما تشاجر طفلان مع بعضهما البعض من أجل السيطرة على المفترق، لحقت بأحدهم إصابة في رأسه فبدأ ينزف. لذلك استسلم وتنازل عن العمل في المفترق، عائدا إلى الغابة للنوم. ولكن كان في الغابة خنزير برّي اشتم رائحة دم الطفل، فانقضّ عليه ممزّقا جسده وهو على قيد الحياة. كان بدران يعرف ذلك الطفل، ورأى سيّارة الإسعاف وهي تقوم بإخلائه بعد أن كان مصابا.
“الوصول إلى عالم الأطفال شبيه بمغارة ذهب يحرسها 100,000 جندي”

لم يكن بدران أول من حاول الكشف عن هذه الظاهرة. حاول كل برنامج تحقيقات في إسرائيل، تقريبًا، حث هؤلاء الأطفال على التحدّث والكشف عن قصتهم، ولكن باءت تلك المحاولات بالفشل. “عندما يرى المشغّلون الكاميرا يصفّرون، وينجح الأطفال خلال ثانية في الاختفاء”، كما يقول. “وحينها مع من ستحقق، مع الشارع؟ مع الإشارة المرورية؟ إن الوصول إلى عالم هؤلاء الأطفال أشبه بالدخول إلى مغارة ذهب يحرسها 100,000 جندي”.
النهاية المأساوية للقصة
لم تنتهِ مشكلة هؤلاء الأطفال الذين رافقهم بدران مع انتهاء تصوير فيلمه. بل ازدادت حدتها في الواقع. عمل والد الطفلين يحيى وهمام في إسرائيل حتى اندلاع الانتفاضة الثانية وكان يكسب أجرا محترما، ولكن منذ لحظة بناء جدار الفصل، لم ينجح في العثور على مصدر رزق. حاول أن يعمل في أعمال مختلفة ولكنه كان يربح 13 دولارا في اليوم بالكاد، فكان من الصعب عليه إعالة أسرته المكوّنة من 12 فردا. في النهاية يئس، وأرسل ابنه يحيى للتسوّل.

كره يحيى التسوّل بل وحاول الهرب عدة مرات. كشف لبدران، أنّه في كل مرة كان يريد أن يتسلل فيها إلى إسرائيل رواده التفكير أنّ “هذه المرة سيموت”. يمكن أن نرى في الفيلم أنه عندما كبر يحيى وأُرسِل أخوه الصغير همام للعمل معه في التسوّل، حاول ألا يتعرّض أخيه الصغير للمعاناة التي واجهها، ولكن عندما كان يحيى صغيرا لم يحميه أحد.
“علم الأب أنّه يرسل ابنه للموت. يضحّي به. قال لي ذلك بصراحة. واليوم أفهم ماذا كان يقصد”، كما يقول بدران موضحا، “تضرّر يحيى من ذلك كثيرا. أصبح عمره اليوم عشرين عاما تقريبا، ولكنه لا يعرف حتى أن يكتب اسمه. ربما أصبح الآن يقضي محكوميته في السجن، أو أنه يبحث عن مخدرات، أو يتشاجر مع الآخرين. لم يبقَ شيء من ذلك الطفل الصغير، الجميل واللطيف، والذي تم توثيقه في فيلم “فراطه”. هذه هي نهاية كل الأطفال المتسوّلين الذين عرفتهم، إنهم يعرضون أنفسهم للموت”.
من المسؤول؟
“يسألونني دائما: إذا، من المسؤول؟ فأجيب أن المسألة الأساسية لا تكمن في العثور على المسؤول، وإنما في حلّ معاناة هؤلاء الأطفال”. يعتقد بدران أنّ التعاون بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل فقط يمكن أن يقضي على هذه الظاهرة، وينقذ الأجيال القادمة من التعرّض لمصير مشابه.
“الأهم هو أن يشاهد صانعو القرار في السلطة الفلسطينية وفي إسرائيل هذا الفيلم. ولذلك أرغب في عرض الفيلم في الضفة أيضا. بالنسبة للأسرة التي تظهر في هذا الفيلم فليس هناك ما قد يساعدها الآن، وربما ستشعر مُحرجة، ولكن هناك أجيال جديدة من الأطفال الذين يخسرون طفولتهم في المفترقات ويجب إنقاذهم”.